كتب_الدكتور هاني أبو العلا استاذ نظم المعلومات الجغرافية وكيل كلية الآداب جامعة الفيوم؛
يا ألف خسارة على ما وصل إليه الفن من انحطاط، فبعدما كان الصفوة من المثقفين و الساسة يجلسون في دار الأوبرا بالزي الرسمي (الاسموكن) والطربوش في وقار وصمت تام للاستماع لكوكب الشرق كل شهر، التي تشجي القلوب وتطرب الأسماع بطلة بهية تتزين بالوقار، الذي يعبر عن مصريتنا الأصيلة، لتشدو بحلو الكلام وأعذب الألحان. تلك الأغنيات، التي لمست قلوب المصريين النظيفة بأحاسيس رقيقة، ممزوجة بالبهجة تارة، وتارة أخرى لتلهب حماس المصريين لحب بلدهم وتخرج طاقاتهم دفاعا عن وطنهم. لم يقتصر ذلك على المصريين فحسب بل تعداهم لدول العرب كاملة، هؤلاء اللذين حفظوا أغاني السيدة أم كلثوم ورددوها في زهاء. لا شك إنها كانت مرحلة العظماء، فبزغ فيها نجوما للغناء بحق، عرفوا تجويد الكلم الذي لمس القضابا المجتمعية وكانوا بارعين في مداعبة مقامات اللحن، مع إنهم لم يشغل بال أحدهم أن يُكني نفسه بنجم القرن ولا نامبر وان ولا غيرها، فكان الشارع المصري بجميع مكوناته هو الحكم، فحفظوا تلك الأغاني وأجادوا مقاماتها. لا شك إن عبد المطلب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومنير مراد في أجيال أعقبهم هاني شاكر وعلي الحجار وايهاب توفيق وغيرهم كانوا رموزا فنية جديرة بالاحترام، وقد عرفهم العالم العربي وأحبهم وانسجم معهم. وفجأة تدور عقارب الساعة بطريقة أقرب للجنونية، لنرى أصواتا لم نعد نسمعهم، أقل ما يقال عنهم هو كما وصفهم الموسيقار حلمي بكر (أصوات متشابهة كتشابه وجوه سكان شرق آسيا). وبعدما كنا نسعد جمال اللحن الشرقي في مقامات السيكا والحجاز و الرصد، في تناغم رهيب في جمل لحنية مبهرة، أصبحنا نستمع إلى هبات و خرخرات أشبه بايقاعات الروك التي اشتهر بها زنوج شيكاغو، بلا لحن ولا معنى، تصدع الرؤوس وتفسد الذوق العام.
وفجأة يظهر مارد عملاق ليأخذنا إلى صفحة جديدة، بالية يعتلي سطحها بعض من غرهم المال، فنسوا أنهم يمثلون بلد الحضارة و الابداع، ليخرج علينا أحدهم في ثياب أشبه بقميص النوم الحريمي أراد به أن يخطف الأبصار، ليغني متمايلا كجواري الجاهلية (سيدي يا مدلعنا) غير عابئ بقدر الإساءة الذي يجنيه لنفسه ولبلده ولدنيا الطرب. لا يمكن أن نبرأ هذا المغني من مساهمته في إفساد الذوق العام، ومن جريمة المشاركة في إفساد جيل سوف يقلده بعضهم ليرتدي مثل تلك الثياب الهرئة. لك الله يا مصر، ورحم الله عبد المطلب وأم كلثوم وغيرهم من الوطنيين.