بلغت جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، مُنذُ نهاية القرن الرابع عشر الميلاديّ، درجةً عظيمةً من القُوَّة في المشرق الإسلامي، بِما أنشأت من تجارةٍ واسعةٍ ومُستعمراتٍ كثيرةٍ ومحطَّاتٍ ومراكز هامَّة في بحاره.
تحالف أعداء العُثمانيين
خريطة تُصوِّر موقع جُمهُوريَّة البُندُقيَّة ومُمتلكاتها في المشرق الإسلامي والبحر المُتوسِّط ومُجاورتها لِلدولة العُثمانيَّة، بِالإضافة لِخُطُوط التجارة البُندُقيَّة الرئيسيَّة في الحوض الشرقي من البحر المذكور.
ويبدو أنَّ بُرُوز البُندُقيَّة على هذا الشكل، يعود إلى عدم وُجُود مُنافسٍ يُشكِّلُ خطرًا عليها.
فغريمتها جنوة قد أصابها الوهن، وأشرفت على الاضمحلال، والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كانت تمر في مراحل شيخوختها، في حين كانت الدولة العُثمانيَّة في بداية نشأتها السياسيَّة، فنظرت إليها البُندُقيَّة بلا مُبالاة.
لكن مع تزايد نُموّ هذه الدولة الإسلاميَّة، واتساع فُتُوحاتها، حمل البُندُقيَّة على تغيير نظرتها إليها، إذ خشيت أن تُعرقل تجارتها أو تقطع سُبُل مواصلاتها، فراحت تتقرَّب إليها، وتعقد المُعاهدات معها.
لكنَّ هذه المُعاهدات كانت مؤقتة بِفعل استمرار توسُّع الدولة العُثمانيَّة، وحرص البُندُقيَّة على الاحتفاظ بِمركزها المُمتاز في المشرق. وتحقيقًا لِهذا الهدف قوَّت مركزها في اليونان والمورة وبحر إيجة، واستولت على مواقع استراتيجيَّة جديدة فيها، مُحاولةً ما أمكن حرمان العُثمانيين من التوسُّع،
وكانت أكثر ما تخشاه هو سُقُوط القُسطنطينيَّة بِأيديهم لِأنَّهم بِذلك سيُشكلون خطرًا جديًّا، ليس على تجارتها فحسب بل وعلى وُجودها في المشرق، لِذلك حاولت البُندُقيَّة مُساعدة الروم على الصُمُود في وجه الحصار العُثماني، كما ساندت الحركات المُناهضة لِلحُكم العُثماني في الإيالات والبلاد المفتوحة، كحركة إسكندر بك الأرناؤوطي.
لكنَّ القُسطنطينيَّة سقطت في النهاية، واضطرَّت البُندُقيَّة إلى الاعتذار عن موقفها أمام السُلطان مُحمَّد.
وفي سنة 864هـ المُوافقة لِسنة 1460م، أتمَّ السُلطان فتح المورة حيثُ كانت لِلبُندُقيَّة مراكز هامَّة، فتجاور الخصمان وتواجها، وساد الشُعُور بِأنَّ الصدام أضحى وشيكًا، فأعادت البُندُقيَّة النظر في سياسة الصُلح مع العُثمانيين. وأُشيع في ذلك الزمن أنَّ السبب المُباشر لاندلاع الحرب بين العُثمانيين وأعدائهم، وعلى رأسهم البُندُقيَّة، كان إلحاق البُشناق بِالدولة العُثمانيَّة،
ففي سنة 868هـ المُوافقة لِسنة 1463م، وصل الخبر إلى السُلطان بِأنَّ ملك المجر متياس كورڤن قد اتفق مع الحُكَّام البنادقة على طلب ثأر ملك البُشناق أسطفان طوماسوڤيچ، واجتمعت كلمتهم على أن يهجم الملك المجري على البلاد العُثمانيَّة المُجاورة لِمُلكه، ويثب البنادقة على بلاد المورة ويعمرون سد كرمه حصار، الذي هدمه السُلطان مُراد قبل عدَّة سنوات، ثُمَّ يأخذون البلاد تدريجيًّا، وقد اتبعهم في ذلك الأرناؤوطيين.
لكنَّ السبب الحقيقي كان الفتح العُثماني لِلقُسطنطينيَّة وإغلاق العُثمانيين المضائق في وجه سُفُن البُندُقيَّة، بِالإضافة إلى حيازة العُثمانيين على قُوَّةٍ عسكريَّةٍ واقتصاديَّةٍ لا تسمح لِأي دولة أن تنال منهم، وشكَّل سُلُوك العُثمانيين الظافرين مصدرًا لِلقلق في أوروپَّا،
لا سيَّما وأنَّ الكثير من المُسلمين كانوا يُستوطنون البلاد المفتوحة بعد كُلِّ انتصار، ويعملون على نشر الإسلام فيها وتعريف أهلها على هذا الدين،
وقد أصابوا في ذلك نجاحًا كبيرًا، فقد اعتنق الإسلام العديد من الكرواتيين البوغوميليين، ودخلت أفواجٌ هائلةٌ من البُشناقيين والأرناؤوطيين في هذا الدين،
وقد ثبت هؤلاء بِالذات على الإسلام وتمسَّكوا به، ودخلوا في نطاق الثقافة العُثمانيَّة.
أطلال إحدى أبراج سد كرمه حصار الذي أعاد العُثمانيُّون هدمه زمن السُلطان مُحمَّد الفاتح، بعد أن هُدم لِأوَّل مرَّة زمن السُلطان مُراد الثاني.
خريطة تُظهر موقع إمارتيّ رمضان (2) وذي القدريَّة (1) بين الدولتين العُثمانيَّة والمملوكيَّة.
استشار السُلطان مُحمَّد الأعيان المُدبِّرين والأُمراء المُجرِّبين في ما يجب فعله بعدما وصلت الأخبار باستعدادات البنادقة والمجريين لِحرب العُثمانيين،
فاجتمعت الكلمة في الشُرُوع على دفع الأضرِّ منهم، والعمل بِالأهم فالأهم، فأرسل السُلطان الصدر الأعظم محمود باشا في جميع العسكر إلى المورة لِيمنع البنادقة من تعمير سد كرمه حصار،
فسار الصدر الأعظم في ربيع سنة 869هـ المُوافقة لِسنة 1464م إلى صوب المورة، لِيكتشف أنَّ البنادقة قد سبقوه إليها وعمَّروا السد سالف الذِكر، وجعلوه أحكم ممَّا كان عليه، وشحنوه بِالمدافع والمُقاتلة.
كما شرعوا بِمُحاصرة قلعة كورنثة وكادوا أن يأخذوها من أيدي المُسلمين، وكان والي المورة سنان بك بن علوان قد تحصَّن فيها، ولمَّا اشتدَّ الأمر عليه اتفق مع أتباعه وخرج من القلعة في ليلةٍ ظلماء وبيَّت البنادقة وكسرهم،
ولم يلبث محمود باشا أن وصل في عقب هذه الواقعة في عسكرٍ عظيم، وهجم على كرمه حصار وسخَّرها بِأيسر وجه، ثُمَّ دمَّرها بِالكامل، وتتبَّع البنادقة وقتل منهم فريقًا وأسر آخر، وأجبر البقيَّة على الفرار إلى ساحل البحر حيثُ ركبوا سُفنهم وأقلعوا فورًا، بعد أن فقدوا قائدهم وأنهكهم الزحار.
وأرسل محمود باشا إلى ركاب السُلطان يُعلمه بانتصاراته الباهرة، ففرح بِذلك وأرسل الخُلع إلى الصدر الأعظم، وأمره بِتسخير بقيَّة قلاع المورة، فجدَّ الوزير في ذلك وافتتح قلاع: آرغوس وإسپرطة ويلدروز وميتوري ولوندار.
نتيجةً لِلمُواجهات الفاشلة في المورة مع الدولة العُثمانيَّة، رأت البُندُقيَّة أن تستند على فكرة حرب العُثمانيين من الشرق والغرب في الوقت نفسه، فراحت تبحث عن حُلفاءٍ لها في منطقة الأناضول الشرقيّ، كما لم تُهمل مُحالفاتها مع الغرب الأوروپي.
ولم يكن في الشرق دولة مسيحيَّة سوى مملكة الكرج،
لِذلك مالت البُندُقيَّة إلى التعامل مع إحدى الدُول الإسلاميَّة المُناوئة لِلعُثمانيين، وكان في بلاد الأناضول آنذاك ثلاث إماراتٍ من الأُسر التُركمانيَّة، وهي إمارتا القرمانيين وذي القدريَّة، التابعتان لِلسيادة العُثمانيَّة، وإمارة رمضان، التابعة لِلمماليك في مصر والشَّام.
وهكذا تطلَّعت البُندُقيَّة إلى إمارة القرمان لِتحريضها على مُهاجمة العُثمانيين، وبِخاصَّةً أنَّ هذه الإمارة قد أخذت على عاتقها في السَّابق القيام بِمُضايقتهم، إلَّا أنَّ الفاتح كان قد أخضعها كما أُسلف، ولم يعد القرمانيين الحليف الذي يُمكن أن يُسدِّد ضربة لِلقُوَّة العُثمانيَّة.
فتوجَّهت الأنظار نحو الدولة المملوكيَّة في سبيل تحريض المماليك على العُثمانيين عبر استغلال الخلافات الحُدُوديَّة بين الطرفين، لكنَّ المماليك اعتبروا بِأنَّ خلافاتهم مع العُثمانيين ليست مُهمَّة بِالدرجة التي تجعلهم يُقدمون على دُخول حربٍ واسعة، كما أنَّ السلطنة المملوكيَّة
لن تُقدم على أيِّ عملٍ، بِالتحالف مع النصارى، ضدَّ دولةٍ إسلاميَّةٍ أُخرى، يُضاف إلى ذلك أنَّهُ لم تظهر من جانب السُلطان العُثماني أيَّة بوادر تُشير إلى رغبته باجتياز نهر الفُرات وجبال طوروس، وإنَّما ركَّز جُهُوده على أوروپَّا.
نتيجةً لِهذه المواقف السياسيَّة، تطلَّعت البُندُقيَّة إلى الدولة الآق قويونلويَّة، وعقد آمالها على أوزون حسن الذي أبدى استعدادًا لِمُهاجمة العُثمانيين، وأثبت هذا الأمير التُركماني أنَّهُ يملكُ قُوَّةً عسكريَّةً هائلة، فهو يُسيطر على الأناضول الشرقيَّة، ويتحرَّق غيظًا من السُلطان مُحمَّد الذي قضى على إمبراطوريَّة طرابزون التي تشُدُّه إليها روابط عائليَّة، بِالإضافة إلى أنَّهُ أخضع إمارة القرمانيين ما أحدث تضعضُعًا وخللًا في التوازن في المنطقة.
ورأى الأوروپيُّون أنَّهُ لو كان بِالإمكان إعطاء الدور الذي لعبه تيمورلنك في الماضي، إلى أوزون حسن، لكسبت أوروپَّا الحرب من الناحية الإستراتيجيَّة، وحتَّى إن لم يتيسَّر لها دحر القُدرة العُثمانيَّة، فإنَّهُ سيكون في إمكانها حصرها في حُدُود المعقول.
أوزون حسن، حليف أوروپَّا ضدَّ العُثمانيين.
وكانت المصالح التجاريَّة دافعًا قويًّا لِأوزون حسن لِلاصطدام بِالعُثمانيين، ذلك أنَّ طرابزون كانت منفذًا لِلتجارة الإيرانيَّة ومُرتبطة تجاريًّا بِعاصمته تبريز، وقد خشي من أنَّ الامتداد التوسُّعي العُثماني، باتجاه الشمال والشرق، سوف يقضي على مصالحه التجاريَّة، لِأنَّ العُثمانيين سيتحكَّمون عندئذٍ بِالطُرق التجاريَّة ويُضايقون التُجَّار الإيرانيين، لِذلك حاول الاستيلاء على أعالي الفُرات، وهي الطريق الطبيعي لِلتجارة الإيرانيَّة التي ترتبط بِالأناضول بِشبكةٍ من الطُرق التجاريَّة امتدادًا إلى شماليّ الشَّام.
وكان القضاء على إمبراطوريَّة طرابزون من قِبل السُلطان مُحمَّد الفاتح، الشرارة التي أشعلت نار الحرب بين العاهلين.
وقد روادت الأمير التُركماني فكرة القضاء على العُثمانيين والمماليك معًا لِيُقيم على أنقاض مُلكهما تلك الدولة الواسعة التي كان يحلم بها.
وهكذا جرت مُفاوضاتٌ بين البُندُقيَّة وبين أوزون حسن شاركت فيها بعض الدُول الأوروپيَّة والبابويَّة، تميَّزت بِالأناة والهُدُوء، واتُّفق على وضع الخُطُوط العريضة لِلمُعاهدة التي تضمَّنت خطَّةً لِلتقسيم التي تحصل المجر بِموجبها على حصَّة الأسد لِتخصيصها أكبر قُوَّة عسكريَّة،
فلها بلادُ الصرب وبُلغاريا والبُشناق والأفلاق، وتحصل البُندُقيَّة كذلك على حصَّةٍ كبيرة، بِفعل مُوافقتها على تحمُّل القسم الأكبر من النفقات الماليَّة،
بِالإضافة إلى تقديمها أُسطولها البحري القويّ، فتكون المورة وآتيكة وتساليا وإپيروس من نصيبها.
ويُعاد إحياء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة على أن تنحصر حُدُودها في تراقيا لِكونها أرثوذكسيَّة، وتكون بِمثابة دولة حاجزة، وبِذلك يُطرد المُسلمون من أوروپَّا بِشكلٍ كاملٍ.
أمَّا الأراضي التي ستبقى لِلعُثمانيين في الأناضول فتكون رهنًا بِسياسة أوزون حسن الذي سيُعيد إلى إمارة القرمان استقلالها ويُعيد تأسيس إمبراطوريَّة طرابزون ويضعهما تحت حمايته، كما سيضم أراضي الأناضول الوسطى، وبِذلك تنحصر الدولة العُثمانيَّة بين بحر البنطس (الأسود) وبحر مرمرة وبحر إيجة والبحر المُتوسِّط، ولا يُسمح لها بِالاقتراب من الأناضول الأوسط.
وعلم السُلطان الفاتح، الذي كان يملك أقوى شبكة تجسُّس في العالم، ولهُ عُيُونٌ وأرصادٌ في كُل منطقةٍ من أوروپَّا، إجراءات الاتفاق الذي رُتِّب ضدَّه، خُطوة بِخُطوة، فتحرَّك بِسُرعةٍ لِإحباطه، وتمكَّن من سبق الأعداء.