بعد عودته من الأفلاق، أذن السُلطان لِلعساكر في العودة إلى بلادهم، وسار هو في خواصه إلى گليپولي، وأمر بِتعمير أُسطولٍ عظيمٍ من الأغربة وغيرها من السُفن الحربيَّة لِفتح جزيرة مدللي، المُسمَّاة بِكُتُب الروم “لسبوس”، وأخذها من أيدي الإفرنج الجنويين لِلقضاء على نُفُوذهم في بحر إيجة وطردهم من هذه المنطقة التي احتلُّوها مُنذ زمن الحملة الصليبيَّة الرابعة.
ولمَّا تمَّ أمر الأُسطُول، أرسلهُ السُلطان بِقيادة الصدر الأعظم محمود باشا الصربي إلى مُحاصرة الجزيرة من البحر،
وسار هو في عسكر الأناضول ونزل ببلدة آيوالق مُقابل الجزيرة المذكورة. وشرع محمود باشا في رمي القلعة الرئيسيَّة على الجزيرة بِالمدافع الكبار، فلم تقدر الحامية المُكوَّنة من الجنويين والفُرسان الإسبتاريين من الصُمُود أمام القصف العنيف، فأعلن أمير الجزيرة نقولا گاتيلوسيو استسلامه، وطلب الأمان، فأمَّنه السُلطان على نفسه وتسلَّم القلعة صُلحًا، وأقرَّ الرعيَّة على حالهم، ثُمَّ نقل إلى الجزيرة بُيُوتًا من المُسلمين، وبنى فيها مساجد ومصالح لهم، ووزَّع أراضيها على أهل التيمار، وعيَّن عليها أميرًا فارسيًّا هو الشيخ علي بن مُحمَّد البسطامي.
كما أمر السُلطان بِإنشاء قلعتين مُتقابلتين في مضيق الدردنيل لِلسيطرة عليه بِالنيران المُتقابلة، على غرار مضيق البوسفور، فشيَّد استحكاماتٍ ومتاريس القلعة السُلطانيَّة في جهة آسيا وقلعة “كليد البحر” في جهة گليپولي، ثُمَّ عاد إلى مُستقر دولته.
فتح البُشناق
أيقونة تُصوِّرُ ملك البُشناق أسطفان طوماسوڤيچ مُتضرِّعًا.
بعد فتح العُثمانيين لِبلاد الصرب، أضحوا يُجاورون مملكة البُشناق التي اشتهرت بِقلاعها الكثيرة وجبالها المنيعة، وكان ملكُ هذه البلاد أسطفان طوماسوڤيچ أشدُّ خطرًا على الدولة العُثمانيَّة من أيِّ حاكمٍ صربيٍّ آخر، لِأنَّهُ كان حليفًا لِلبابا والبُندُقيَّة والمجر، ويسعى إلى تأليب هؤلاء على العُثمانيين،
لِذلك تطلَّع السُلطان مُحمَّد إلى فتح هذه البلاد منعًا لِقيام تحالُفٍ أوروپيٍّ ضدَّه، فبعث إلى ملكها يطلب منهُ الخُضُوع لِلدولة العُثمانيَّة، والاعتراف بِسيادتها، ودفع الجزية لها، إلَّا أنَّ أسطفان رفض طلب السُلطان وتمنَّع عن دفع الخراج،
والواقع أنَّ أسطفان المذكور كان مُرتبطًا بِحلفٍ قويٍّ مع ملك المجر متياس كورڤن والبابا، وكان قد سلَّم عدَّة قلاع وحُصُون إلى الملك المجري المذكور لِقاء الحُصُول على مُساعدته، فاشترط عليه الأخير أيضًا أن يُقسم له الولاء المُطلق ويتعهَّد بِعدم دفع الجزية لِلعُثمانيين، فكان أن فعل ما أُمر به، خوفًا من أن يتدخَّل متياس لدى البابا ويطلب منه سحب الدعم العسكري عن البُشناق بِسبب قُبُولها الخُضُوع لِلمُسلمين.
واستنجد أسطفان بِملك المجر والبابا پيوس الثاني، وبيَّن لهما أنَّهُ لو تمَّ لِلعُثمانيين السيطرة على البُشناق فإنَّهم سينقضُّون بعد ذلك على إيطاليا وروما، إلَّا أنَّهُ لم ينل إلَّا الوُعُود، رُغم التزامه بِالعُهُود القائمة بينه وبين المجر والبابويَّة. وفي أوائل ربيع سنة 867هـ المُوافقة لِسنة 1463م، بعث السُلطان رسولًا آخر إلى أسطفان يُخيِّره بين الاستسلام أو القتال، فكان جوابه الرفض أيضًا.
وحاول الملك البُشناقي الحُصُول على مُساعدة أطرافٍ أُخرى ضدَّ العُثمانيين، فاتصل بِجُمهُوريَّة راگوزة التي توسَّطت بينه وبين إسكندر بك الذي تعهِّد بإرسال جيشٍ لِلمُساعدة.
كما اتصل بِالبُندُقيَّة، لكنها لم تُقدِّم أيَّة وُعُود جديَّة بِالعون. وحاول كذلك الحُصُول على المدد من فرديناند الأوَّل ملك النبلطان، لكنَّ هذا تحجَّج بِالمُشكلات الداخليَّة لِبلاده واكتفى بِدعم أسطفان دعمًا معنويًّا.
العهدنامه، أو كتاب الأمان، الذي أرسله السُلطان مُحمَّد إلى الكهنة والقساوسة الكاثوليك في البلاد البُشناقيَّة حديثة الفتح، يُؤمِّنهم فيه على أنفُسهم ودينهم وكنائسهم.
عندما وصل جواب أسطفان إلى البلاط العُثماني، زحف السُلطان الفاتح بِاتجاه البُشناق ونزل بِإسكوپية حتَّى نزل عليه بقيَّة العسكر، ثُمَّ سار بهم وأرسل الصدر الأعظم محمود باشا في مُقدِّمة الجيش، فسار وحاصر حصن لوفجة وأخذه بعد ثلاثة أيَّام،
ثُمَّ توجَّه إلى حصن يايجة، وكان أسطفان مُتحصنًا فيه، فهرب منه قبل وُصُول الصدر الأعظم إلى قلعة صقول، وكانت في غاية المناعة والحصانة، ولمَّا وصل محمود باشا إلى قُرب يايجة عرف بِهرب أسطفان، فأرسل عُمر بك بن طُرخان لِلتجسس وجمع المعلومات
واكتشاف مهرب الملك البُشناقي، فسار عُمر بك في جمعٍ من الآقنجيَّة، وظفر بِجماعةٍ من الجُنُود البُشناقيين، فأسرهم وأرسلهم إلى الصدر الأعظم، وتابع سيره حتَّى بلغ صقول،
حيثُ يُروى أنَّ العُثمانيين كادوا يعبرون المدينة دون أن يعلموا بِوُجود الملك في حصنها، لولا أنَّ أعلمهم بِذلك أحد العوام لِقاء مبلغٍ من المال.
وهكذا حوصرت القلعة طيلة أربعة أيَّام، خرج خلالها العسكر البُشناقيين وقاتلوا العُثمانيين قتالًا شديدًا، وكادوا يهزموهم لِقلَّتهم، لولا أن وصل محمود باشا في بقيَّة الجيش وكسروا المُحاصرين، وتابعوا الضغط على القلعة.
وأرسل محمود باشا إلى أسطفان يُخبره أنَّهُ مُستعدٌ لِتأمينه إن استسلم وسلَّم القلعة، ولمَّا كانت المُؤن والذخائر قد تناقصت بِشكلٍ كبير، أدرك أسطفان أنَّ لا مناص من نصر العُثمانيين، فقبل عرض الصدر الأعظم واستأمنه، فأمَّنه وتسلَّم القلعة، ثُمَّ حاصر قلعة “أرجاي” وكان أخو أسطفان مُتحصنًا فيها، فسلَّمها أيضًا بِالأمان، ثُمَّ عاد محمود باشا إلى الركاب العالي ومعه الملك وأخوه.
خِلال تلك الفترة كان السُلطان قد افتتح حصن يايجة وأجلى أهله إلى نواحي إسلامبول، وفي أثناء ذلك وصل الصدر الأعظم وأخبر الفاتح بما جرى من أحداث بما فيها تأمين أسطفان،
فقبَّح السُلطان هذا الفعل وعاتب محمود باشا عليه لِشدَّة غضبه على الملك البُشناقي، الذي لم يَر خلاصه وتأمينه، فاستفتى العُلماء المُلازمين لِركابه في هذه الحملة في قتل أسطفان، فأفتى بِذلك الشيخ علي بن مُحمَّد البسطامي، وأمر السُلطان بإعدام أسطفان وأخيه،
فنُفِّذ الأمر ودانت بِذلك جميع بلاد البوسنة وأصبحت جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة، ولم يبقَ أمام الفاتح سوى إقليم الهرسك لِيُتمم فتح كامل البُشناق.
ومن الجدير بِالذكر أنَّ الفاتح أرسل عهدًا بِالأمان إلى جميع الكهنة والقساوسة الكاثوليك في البلاد حديثة الفتح يُؤمِّنهم فيه على أنفسهم ودينهم وكنائسهم، ومن بعض ما ورد فيه:
نحنُ السُلطان مُحمَّد خان… نُعلنُ لِعامَّة النَّاس وخاصَّتهم أننا أنعمنا على رُهبان البوسنة الذين يحملون هذا الفرمان، وأصدرنا الأوامر:
ألَّا يتعرَّض أحد لِهؤلاء الرُهبان ولا لِكنائسهم، ولا يتمّ إزعاجهم… من يكون منهم في بلادي مُستقرًّا فيها، أو هاربًا إليها على حدٍّ سواء، لهم الأمن والأمان، يُمكنهم أن يأتوا إلى بلادي ويسكُنوا فيها بِأمانٍ، ويستقرُّوا في كنائسهم… ولن يُصيب هؤلاء أي شكلٍ من أشكال التعرّض والإضرار من أحد، لا منَّا ولا من وُزرائنا ولا من شعبنا…
وبإعلان هذا الفرمان، أُقسم بِالله العظيم خالق السموات والأرض، وبِالرُّوح النقيَّة الطاهرة المُنوَّرة لِلرسول صلواتُ الله وسلامه عليه، وبِالصُحف السبعة، وبِحق 124 نبيّ ورسول، وبحق هذا السيف الذي أتأبطه، بِأنَّنا لن نسمح أن يُخالف أيٌ من أفراد رعيتنا ما كُتب وأُفهم، ما دام أولئك المُوجَّه لِمصلحتهم يلزمون السلم والطاعة.
بعد ذلك، أسرع السُلطان وتوجَّه لِفتح بلاد الهرسك، وهي القسم الجنوبي من البُشناق، فقد كان فتح هذا الإقليم يُشكِّلُ ضرورةً سياسيَّةً وعسكريَّةً نظرًا لِمناعة حُصُونه وموقعه الجُغرافي المُشرف على البحر الأدرياتيكي.
ولمَّا علم أمير البلاد “أسطفان ڤوكيچ” بِمسير العُثمانيين، هرب إلى إحدى جُزر البحر سالف الذِكر، وكان السُلطان قد أرسل الصدر الأعظم محمود باشا إلى تسخير تلك البلاد، وعاد هو إلى صوب إسلامبول، فسار الصدر الأعظم وسيطر على جميع القلاع والحُصُون الهرسكيَّة: بعضُها بِالأمان وبعضُها بِالسيف، واغتنم أموالًا عظيمة، فأرسل الأمير الهرسكي ولده مع أموالٍ غزيرة إلى ركاب السُلطان لِطلب الأمان، فأجابه السُلطان إلى ذلك، وقسَّم الهرسك إلى قسمين؛ فضمَّ أنفعها إلى الدولة العُثمانيَّة، وهي الأراضي الواقعة شمال بلدة بلاغاي، وترك لأميرها القسم الآخر، وبقي ابن أسطفان مقيمًا في البلاط السُلطاني حيثُ تعرَّف على الإسلام وانتهى به المطاف أن اعتنقه.