أخبارمنوعات

السلطان محمد الفاتح و الحملة الثانية على المجر

و.ش.ع

القاهرة_ د. مختار القاضي 

بعد هذه الترتيبات، تحرَّك البابا پيوس الثاني من روما في 12 شوَّال 868هـ المُوافق فيه 18 حُزيران (يونيو) 1464م، على رأس جيشٍ صليبيٍّ، لكنَّهُ تُوفي في الطريق.

 صبَّت هذه الحادثة في مصلحة العُثمانيين، لِأنَّ البابا الجديد بولس الثاني قد تحوَّل عن مُحاربة العُثمانيين إلى مُحاربة ملك بوهيميا جُريج الپوديبرادي لِحمايته الهراطقة الهوسيِّين أتباع الكاهن يُوحنَّا هوس،

 وسُرعان ما خرج ملك المجر متياس كورڤن وأخذ قلعة يايجة وحصَّنها، وبلغ ذلك السُلطان فتجهَّز بِأكمل جهاز وسار في ربيع سنة 870هـ المُوافقة لِسنة 1466م إلى استرداد القلعة المذكورة، فحاصرها مُدَّةً مديدةً وقاتل حاميتها، لكنَّهُ لم يتمكَّن من فتحها،

ثُمَّ بلغه أنَّ ملك المجر قد حاصر بلدة إزورنيق مع جمعٍ عظيمٍ من الجُنُود، فترك السُلطان مُحمَّد بك بن منت لِيستكمل حصار يايجة، وتوجَّه هو في بقيَّة العسكر إلى قتال متياس كورڤن.

ولمَّا تبيَّن له أنَّ الدُرُوب والمعابر الجبليَّة كانت مشحونةً بِالأعداء والمدافع الكبار ويصعب عُبُورها، عيَّن الصدر الأعظم محمود باشا على رأس الجيش لِإنجاد إزورنيق، وعاد هو إلى صوفيا وشتى فيها.

وكان قائد حامية البلدة سالِفة الذِكر هو إسكندر بك ميخائيل أوغلي، ومعهُ خمسُمائة مُقاتل، وقد أظهروا الجلادة والتدبير في الدفاع عنها، إلَّا أنَّ الأمر اشتدَّ عليهم لمَّا طال أمد الحصار، ولم يبقَ عندهم شيءٌ من الزاد والذواد والآلات،

وكان الوقت شتاء والأرض محفوفة بِالثُلُوج، فكادوا أن يستسلموا لولا أن وصلهم جاسوسٌ من طرف الصدر الأعظم يُثبِّتهم ويُعلمهم أنَّ النجدة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى.

ووجد الجاسوس أنَّ المجريين قد استتروا في حُفرٍ تحت الأرض من شدَّة البرد، فعاد وأخبر الصدر الأعظم بما رآه، فأسرع الخُطى وأخذ المجريين على حين غرَّة وسحقهم سحقًا،

وترك الملك المجريُّ مدافعه وسائر آلات الحصار وفرَّ ناجيًا بحياته، فتبعهُ محمود باشا إلى أن عبر نهر صوه، وهكذا نجا متياس كورڤن من الموت بِصُعُوبة، ولم يفلت معهُ سوى جمعٌ قليلٌ من جُنُوده، واغتنم العُثمانيُّون أشياء كثيرة.

ثُمَّ رمَّم الصدر الأعظم إزورنيق وحصَّنها بِالرجال والميرة، وعاد إلى ركاب السُلطان.

 أمام هذه المُستجدَّات، اضطرَّت البُندُقيَّة إلى تحمُّل عبء الحرب على الجبهة الغربيَّة بِمُفردها.

الحملة ضدِّ إسكندر بك

العُثمانيُّون يُحاصرون مدينة آقچة حصار بِقيادة السُلطان مُحمَّد الفاتح.

رسمٌ لِإسكندر بك، أبرز وأشد خُصُوم الدولة العُثمانيَّة طيلة 25 سنة، مُنذُ أن انشقَّ عن السُلطان مُراد الثاني بُعيد هزيمته على يد الصليبيين، خلال الحملة الطويلة، وحتَّى وفاته سنة 1468م.

بعد هزيمة المجريين، حوَّل السُلطان مُحمَّد انتباهه إلى بلاد الأرناؤوط لِتسخيرها لِاتفاق أُمرائها وزُعماء عشائرها مع البنادقة، فعاث فيها وبثَّ سراياه إلى أطرافها، فأصاب العُثمانيُّون غنائم وسبايا كثيرة،

ثُمَّ استأمن إليه بقيَّة حُكَّام تلك البلاد، والتزموا أداء المال والخراج، فأمَّنهم السُلطان،

ثُمَّ أمر ببناء قلعةٍ مُحكمةٍ في وسط تلك الديار لِمُحافظة عُهودهم، وسمَّاها إيلبصان، وشحنها بِالرجال وأودع فيها ما تحتاجه من المدافع وآلات الحرب.

 ثُمَّ بلغهُ أنَّ إسكندر بك العاصي قد نقض المُعاهدة التي أبرمها مع العُثمانيين في شهر رمضان سنة 865هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) 1461م،

التي ترك فيها السُلطان إقليميّ الأرناؤوط وإپيروس لِإسكندر بك، وأغار على بلاد قلقان دلن، فتوجَّه السُلطان في ربيع سنة 872هـ المُوافقة

لِسنة 1468م لِدفع غائلة إسكندر بك، وحاصر عاصمته آقچة حصار، وعرض على حاميتها التسليم وتعهَّد لهم بِتأمينهم على حياتهم، لكنَّ أهل الحصن بادروا بِقصف المُحاصرين بِالمدافع،

 فردَّ عليهم العُثمانيُّون بِالمثل، وقصفوا الحصن قصفًا عنيفًا، لكن بلا طائل، فقد صمدت المدينة، لكنَّ طول الحصار أضعف المُقاومة وقلَّل المؤونة والذخائر، فاضطرَّ إسكندر بك أن يبعث الكردينال “بولس أنجلوس” إلى البُندُقيَّة لِيُعلم حُكَّامها بِصُمُود الأرناؤوطيين في عاصمتهم، وأنَّ هذا الصُمُود لا يُمكن أن يدوم إلَّا لو أرسل البنادقة مددًا.

 لكنَّ البُندُقيَّة ردَّت بأنها غير قادرة على المُساعدة كونها تُواجه ضُغُوطًا مُتزايدةً من العُثمانيين في كُلٍ من دلماسيا وبحر إيجة، وأنَّها غير قادرة على تجنيد المزيد من العساكر بِسبب الصُعُوبات الماليَّة التي تُواجهها؛

ومن المعروف أنَّ السُلطان مُحمَّد كان قد منح غراندوقيَّة توسكانة امتيازاتٍ تجاريَّةٍ كبيرة، وحسَّن أحوالها الماليَّة بِشكلٍ واسعٍ، وذلك بِغرض إضعاف القُدرة الماليَّة والاقتصاديَّة لِلبُندُقيَّة.

 تابع إسكندر بك قتال العُثمانيين رُغم عدم حُصُوله على المُساعدة، حتَّى أدرك السُلطان أنَّ المدينة لن تسقط، ففكَّ الحصار عنها وعاد أدراجه،

ثُمَّ عاود الكرَّة عليها مُجددًا بعد شهرين فقط، لكنَّهُ فشل في أخذها هذه المرَّة أيضًا، إذ التجأ إسكندر بك إلى الجبال الحصينة وأخذ يُناوش العُثمانيين حتَّى أنهك قواهم، فاكتفى السُلطان بأنَّ قسَّم ما افتتحه من البلاد الأرناؤوطيَّة إلى سنجقين، وأعطاهما إلى أميرين، ثُمَّ قفل عائدًا إلى عاصمة مُلكه.

 وفي 22 جُمادى الآخرة 872هـ المُوافق فيه 17 كانون الثاني (يناير) 1468م، تُوفي إسكندر بك، بعد أن حارب الدولة العُثمانيَّة خمسًا وعشرين سنة بِدون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خُصُوم الدولة وألدِّ أعدائها.

فتنة القرمانيين والذيقدريين

إحدى القلاع التي عمَّرها السُلطان مُحمَّد على الجبال المُحيطة بِقونية لمَّا ضمَّها إلى بلاده.

بعد وفاة إسكندر بك، حوَّل السُلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بِآسيا الصُغرى ووجد فيها سبيلًا لِلتدخُّل وهو أنَّ أميرها إبراهيم بك بن مُحمَّد أوصى بعد موته بِالحُكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحٰق، ولكون أُمِّه أُمَّ ولد نازعهُ الحُكم أُخوته من أبيه الذين من الزوجات،

 واستنجد أكبرهم المدعو پير أحمد بِالسُلطان العُثماني، وتعهَّد لهُ بِالتنازل عن قسمٍ من الإمارة لِلدولة العُثمانيَّة، فرأى السُلطان في ذلك فُرصةً لا تُعوَّض، لكن كان عليه تأمين الجبهة الغربيَّة مع البُندُقيَّة أولًا قبل التحرُّك نحو آسيا.

فقام الفاتح بِمُناوراتٍ سياسيَّةٍ مُعقدةٍ جدًا مع البنادقة، إذ فتح بابًا لِمُفاوضات الصُلح على الرُغم من أنَّ الحرب كانت ما تزال دائرة، وقدَّم لِلبُندُقيَّة شُرُوطًا مُبهرة دفعت ساستها إلى طاولة المُباحثات، فأوقفوا الحرب مُدَّةً من الزمن،

 فساد الأمن في أنحاء أوروپَّا حتَّى حين، وسار السُلطان وحارب الأمير إسحٰق وهزمه وأجبره على الإلتجاء إلى بلدة سُليقية على تُخُوم الإمارة، وولَّى محلُّه أكبر إخوته پير أحمد، وعاد هو إلى عاصمته.

 ولم يكد السُلطان مُحمَّد يرجع إلى إسلامبول حتَّى بلغه غدر پير أحمد، إذ عاد واستردَّ ما كان قد تنازل عنه لِلعُثمانيين من البلاد، وأشهر العصيان ضدَّهم، كما بلغه اضطراب الأوضاع في إمارة ذي القدريَّة،

إذ ثار البكوات والقادة والأعيان على أميرهم “شهبُداق بن سُليمان”، بعد أن سعى لدى السُلطان المملوكي، الظاهر سيف الدين خُشقدم، في قتل أخيه الأكبر سيف الدين ملك أصلان، الأمير السابق لِلبلاد، أثناء زيارته القاهرة،

ثُمَّ تولَّى العرش بدلًا منه بِدعمٍ من السُلطان سالف الذِكر. فقام بِوجهه أخيه الآخر “شهسوار”، واستنجد بِالسُلطان العُثماني لِيُعاونه على أخيه المُغتصب.

 توجَّه السُلطان الفاتح أولًا إلى دفع غائلة الأمير القرماني، فوصل إلى قونية وأخذها دون عناء، فهرب پير أحمد إلى لارندة، فسيَّر السُلطان الصدر الأعظم محمود باشا إلى قتاله، فسار إليه وقاتله بِخارج لارندة قتالًا شديدًا ثُمَّ انكسر فهرب شرقًا لِلاحتماء بِأوزون حسن،

وأمر السُلطان بِقتل كُل من أُسر القرمانيين المُوالين لِلأمير العاصي، ثُمَّ أمر الصدر الأعظم بِتتبُّع الذيقدريين المُفسدين المُوالين للأمير شهبُداق، فلاحقهم وأسر جمعٌ من أتباعهم، وأُرسلوا إلى السُلطان فأمر بِقتلهم،

وتولَّى شهسوار مكان أخيه، وتمكَّن بِفضل المُناصرة العُثمانيَّة من تحدِّي المماليك والصُمُود بِوجه حملاتهم العسكريَّة التي أُرسلت لِإعادة هذه الإمارة تحت جناح السلطنة المملوكيَّة.

 وأمر السُلطان مُحمَّد الصدر الأعظم بِنقل أهل الصنائع والحرف من قونية ولارندة إلى إسلامبول، فنفَّذ ما أُمر به،

ثُمَّ قام بِتعمير قلعة قونية وهدم قلعة كوالة القديمة التي شيَّدها البيزنطيُّون، وعمَّر قلعة أحمدك، ثُمَّ أقطع تلك البلاد لِولده الشاهزاده مُصطفى لِيُريح باله من هذه الجهة،

ثُمَّ عاد إلى صوب دار مُلكه. وجديرٌ بِالذكر أنَّ السُلطان مُحمَّد عزل بُعيد هذه الحملة الصدر الأعظم محمود باشا الصربي وولَّى مكانه مُحمَّد باشا الرومي، وتنص بعض المصادر أنَّ سبب ذلك كان مُعارضة محمود باشا ضم الإمارة القرمانيَّة عبر تعيين الشاهزاده مُصطفى واليًا عليها،

 وقيل أنَّ مُحمَّد باشا الرومي، الذي كان بينه وبين الصدر الأعظم نزاعٌ وشقاق، افترى عليه عند السُلطان أُمورًا قبيحة من جُملتها أنَّهُ قال أنَّهُ قد أخذ رشاوى من أغنياء قونية ولارندة فتركهم وأجلى الفُقراء والمساكين منهم وظلمهم، فصدَّقهُ السُلطان في ذلك.

فتح جزيرة وابية

جانبٌ من قلعة نجربونت كما بدت في القرن التاسع عشر الميلاديّ.

أثناء انشغال السُلطان بِآسيا الصُغرى، هاجم البنادقة في ثمانين سفينة سواحل إينوز ونهبوها وخربوها وأسروا خلقًا كثيرًا من المُسلمين، فأراد السُلطان الانتقام لِهؤلاء.

وفي الحقيقة فإنَّ السُلطان هدف من وراء فتح باب مُفاوضات الصُلح مع البُندُقيَّة، كما أُسلف، كسب الوقت فقط من أجل معالجة الأزمات المُستجدَّة في الأناضول، وكان عاقد العزم على تدمير القُدرة العسكريَّة والاقتصاديَّة لِجُمهُوريَّة البُندُقيَّة، لِذلك أسرع، ما أن انتهى من بلاد القرمان وعلم بِما حصل لِمُسلمي إينوز، إلى إعلان أنَّ المُفاوضات دخلت في طريقٍ مُغلق، وأنَّ الحرب مع البنادقة عادت مُجددًا.

 وكان أوَّل ما فعله أن أرسل الصدر الأعظم السابق محمود باشا إلى گليپولي لِإعداد السُفن، وتوجَّه هو من جانب البر وبنيَّته فتح جزيرة وابية، المُسمَّاة في كُتب التُرك “أغريبوز”.

وكانت هذه الجزيرة – وهي أكبر جُزُر بحر إيجة – بِحوزة البنادقة مُنذُ سنة 1210م، أي لِمُدَّة 260 سنة، وقبلها كانت بِحوزة البيزنطيين.

و سار محمود باشا في مائة مركبٍ عظيمٍ من الغلايين و200 سفينة نقل إلى مضيق وابية، فحاصر الجزيرة من جانب البحر، أمَّا الجيش السُلطاني فقد دخل إلى تساليا من ممر ترموبيل،

وانتقل منها إلى آتيكة وانتقل إلى صوب الجزيرة، وكان البنادقة قد قطعوا الجسر الذي يُعبر منه إليها من بر اليونان، فرتَّب محمود باشا جسرًا من السُفن حتَّى عبر عسكر السُلطان منه إلى قاعدة الجزيرة،

وهي قلعة “نجربونت” التي سمَّاها العُثمانيُّون بِنفس اسم الجزيرة، أي أغريبوز. وشرع العُثمانيُّون في الحصار والقتال،

وكانت سُفن البنادقة قد قرُبت من الجزيرة، لكنَّ قائدها لم يجسر على الاقتراب من الأُسطُول العُثماني.

دام حصار نجربونت 17 يومًا، ثُمَّ سقطت القلعة في الهجوم الخامس، فافتُتحت عنوةً يوم 14 مُحرَّم 875هـ المُوافق فيه 12 تمُّوز (يوليو) 1470م، وقتل السُلطان المُقاتلة من أهلها وأمَّن الرعيَّة على أنفسهم ودينهم وأموالهم وعيالهم، وحوَّل قسمًا من كنائس الجزيرة إلى مساجد، ثُمَّ عاد إلى إسلامبول.

 كانت خسارة البُندُقيَّة بِوابية جسيمة، كون تلك الجزيرة كانت مركز مُستعمراتها في البحر المُتوسِّط، وأحدث سُقُوط الجزيرة في يد المُسلمين تأثيرًا كبيرًا في أوروپَّا، كسُقُوط القُسطنطينيَّة وطرابزون، وحاولت البُندُقيَّة استرداد الجزيرة بِالمال، لكنَّ السُلطان رفض ردَّها إليها بِأيِّ ثمن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *